حسين شبكشي
فرنسا، هذه الدولة الأوروبية المهمة، تبدو كمن يغرد خارج سرب العقوبات الدولية بحق روسيا كعقوبة ضدها بسبب تدخلاتها الخطيرة في أوكرانيا، وتمضي قدما لتنفيذ اتفاق اقتصادي كبير مع روسيا تتجاوز قيمته المليار دولار. هل لا تزال أوروبا «مهمة» كثقل فعال ومهم على الساحة الدولية، خصوصا مع مقارنتها بدول مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا؟
الفرضية الأولى هنا هي الحديث عن القارة الأوروبية العجوز ككتلة واحدة وموحدة متفقة. بالعموم، هناك اتفاق على الاستمرار في الكيان الأوروبي الموحد، لكن بقراءة المزيد من التفاصيل الدقيقة سنرى أن هناك «مللا» يصل إلى «التشكيك» في جدوى استمرار بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وهذا ينعكس بشكل واضح في آراء الأحزاب السياسية المختلفة، التي تعكس التململ الشعبي والإعلامي من ورطات الاتحاد الأوروبي الخاصة بالأزمات المالية والاقتصادية المتلاحقة التي أنهكت اقتصاد بريطانيا وحملته تبعات ما ليس له به أي علاقة أصلا. وهذا الهاجس المهم أصاب ألمانيا هي الأخرى، التي يشعر عدد كبير من مواطنيها بأن بلادهم هي وحدها التي تتحمل فواتير وأثمان الإخفاقات والأزمات المالية والاقتصادية الخانقة التي تعصف بأوروبا، وهذا كله على حساب الاقتصاد الألماني نفسه الذي هو بحاجة إلى العديد من الإنفاقات التنموية المختلفة. لكن ألمانيا كحكومة تعتبر هذه الأثمان والفواتير نوعا من الضريبة الواجبة السداد لقاء توسيع رقعة قوتها وهيمنتها الاقتصادية وبالتالي السياسية على هذه القارة الأوروبية، وتعظيم دورها كنتيجة لذلك على الساحة الدولية.
هناك «ميول» مختلفة داخل الجسد الأوروبي، فهي قارة ثرية وعميقة وبنيت على إرث مهم من الفكر والثقافات والحضارات، فهناك دول تميل إلى الفكر الاشتراكي مثل السويد وفرنسا، وهناك دول رأسمالية بقوة مثل ألمانيا وبريطانيا وهولندا والنرويج، وهناك دول لا تزال تغازل روسيا لحسابات اقتصادية مؤثرة مثل بلجيكا وسلوفاكيا والمجر، وهناك دول مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان ترى الخلاص كله في علاقة أقوى مع الولايات المتحدة، وطبعا هناك دول لديها قناعة تامة وعميقة بأن مستقبلها مرتبط بعلاقات استراتيجية وقوية مع الصين باعتبارها الاقتصاد الأهم القادم في العالم.
أوروبا تبني علاقاتها السياسية والاقتصادية بناء على حسابات معينة، منها ما له بعد تاريخي مرتبط بعلاقة استعمارية قديمة تأخذ أولوية في التعامل، أو هناك علاقة عقائدية وآيديولوجية سياسية عميقة ومشتركة تمكنها من إحداث كيان استراتيجي غير تقليدي، يتم فيها اختزال كل الأنظمة والقوانين بصورة استثنائية لإنجاز هذا الكيان، كما هي العلاقة الواضحة بين الولايات المتحدة وبريطانيا على سبيل المثال، ومعروف تماما متانة هذه العلاقات وأهميتها.
أوروبا مؤخرا «فقدت» الكثير من قيمتها وثقلها الاقتصادي والسياسي لصالح القارة الآسيوية خصوصا في السنوات الأخيرة، ولصالح الصين والهند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية واليابان وماليزيا وتايوان وتايلاند تحديدا. لكن هناك رهانا في أوروبا كبيرا جدا على أن عودة عافيتها الاقتصادية ستكون عبر البوابة الاقتصادية للقارة الأفريقية، لما لديها من ثقل تاريخي هائل وعلاقات تجارية مميزة، ولكون أفريقيا، بحسب توقعات وتقديرات أهم المؤسسات المالية الككبرى حول العالم، على موعد مع انفتاح اقتصادي غير مسبوق، ولأن أسواقها ستكون فرصة سانحة لكل المنتجات والخدمات حول العالم بامتياز. إنها الجائزة الكبرى المنتظرة. وهناك دول مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا والبرتغال وألمانيا، وجميعها لديها حضور تاريخي متواصل في هذا القارة، تعتقد (بل وتعد العدة) أن أفريقيا ستكون هي موعد نهضتها من الكبوة الاقتصادية التي هي فيها، هذا طبعا مع عدم إغفال المنافسة الشرسة المتوقعة من كل من الولايات المتحدة والصين والهند وإلى حد أقل روسيا، وهي دول ثقيلة ومهمة ولها قدرات وطرق وأساليب استثنائية لتحقيق طموحاتها في هذه القارة الواعدة. لكن أوروبا لديها تحديات مهمة قد تعوق تطورات هذا الطموح المشروع، فهناك مشكلة ديموغرافية عويصة تواجه القارة الأوروبية، تتمثل في شريحة هائلة من عدد السكان في أوروبا الذين وصلوا لسن الشيخوخة مع انخفاض هائل في نسبة الزواج والإنجاب، وهي مسألة اضطرت أوروبا لفتح أبواب الهجرة من كل أنحاء العالم لتعويض النقص الهائل في الأيدي العاملة المطلوبة لتشغيل ورش ومصانع وكل الجهات المقدمة للخدمات في أوروبا، لكن هذا يتعارض ويتصادم تماما مع رغبات وأماني بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتشدق باسم شعارات الوطنية لتستخدمها كقناع لتغطية وجهها العنصري البغيض.
أوروبا لا تزال لديها القوة والتأثير المهم في صناعة الطيران والأمن والسلاح والسيارات والقطارات والمولدات والأدوية والسياحة والمصرفية والفخامة والأزياء، لكنها في مفترق طرق ومرحلة إعادة وإثبات لنفسها عليها فيها أن تجيب عن مجموعة غير سهلة من الأسئلة المهمة والمؤلمة في آن، ومن خلال الإجابات عن هذه الأسئلة سيعرف العالم الموقع الذي ستختاره لنفسها.