محمد الباهلي
سعدنا جميعاً بـ«جائزة محمد بن راشد للغة العربية العالمية»، ومصدر سعادتنا أن هذه الجائزة سوف تفتح الطريق أمام أهل اللغة لتشخيص أدوائها بشكل صحيح، وسوف تجعلهم يتنافسون فيما بينهم ويدخلون من خلالها إلى آفاق معرفية جديدة لفهم جذور المشكلة اللغوية والتأمل بعمق فيما أصاب هذه اللغة من تراجع وإهمال خلال العقود الأخيرة الماضية، بعد أن كانت لغة العلم والتنمية والحضارة، سواء أكان ذلك بالبحث عن حلول قابلة لتغيير هذا الواقع أو دراسته دراسة مستفيضة وعميقة تنتج عنها فرضيات ونظريات وفلسفات لغوية وفكرية تعمل على إحداث حالة من النهضة والتطور في أحوال اللغة العربية. لغتنا العربية تملك برصيدها التاريخي وقوتها التعبيرية لكي تصبح لغة عالمية، ولكي تستعيد مكانتها الطبيعية وريادتها الحضارية في كل المجالات، خاصة أنها تملك كماً هائلا من القوة الناعمة والقادرة على المنافسة والنفاذ إلى مصادر المعرفة واستيعابها وتوظيفها لتحقيق النهضة العربية المعرفية المطلوبة. كما تستطيع أن تحقق لهذه الأمة الثروة اللغوية والفكرية والاقتصادية الطائلة التي قد تفوق في محصلتها النهائية ثروتها من الموارد الطبيعية، تماماً كما حدث مع اللغة الإنجليزية التي جعلت بريطانيا تكسب من تصدير أدب شكسبير مليارات الدولارات.
وأعتقد أنه بمثل هذه المبادرات والجوائز يمكن البدأ في تغيير الصورة التقليدية الجامدة حول حالة اللغة العربية بمختلف صورها، وإعادة لغة القرآن إلى مسار التطور والإبداع بما يمنحها المكانة اللائقة بها بين لغات العالم في هذا العصر. لذلك فإن مثل هذه الالتفاته التي تدعو إلى تكريم النابهين والعاملين على تطوير اللغة العربية، هي برهان على أن القائم على الجائزة يملك الحس الحضاري العالمي بقيمة هذه اللغة وبما تمتلكه من قوة وما تقدمه للناس من مدد لغوي وفكري وروحي ووجداني، يحقق التوازن الحيوي في منظومة التطور المنشود.
لذلك فإن هذه الجائزة سوف تكون وفق أسس منهجية ومعايير علمية مبتكرة تجعل من أهل اللغة يتابقون في إبرز إبداعاتهم الفكرية ورؤيتهم الفلسفية لتطوير اللغة العربية على أسس موضوعية، كما ستدفع بالمفكرين والأدباء والكتاب لإبراز دورهم الخلاق وتجويد إسهاماتهم في خدمة اللغة العربية وتطوير مهاراتها وأساليب توصيلها إلى عقل الإنسان المتعلم، والمشاركة في طرح الأفكار البناءة والمفيدة.
لقد أدت وتؤدي مثل هذه الجوائز في مجالات العلم على اختلافها دوراً مهماً ومؤثراً في دفع التطور التنموي الشامل وفي إيجاد حالة من الإبداع والابتكار والتجديد، لاسيما في الحقول التي خصصت لها. وقد أشار كثير من علماء اللغة والاجتماع إلى الدور التنموي الذي تلعبه اللغة الأم في حياة المجتمعات والأفراد، وفسروا ذلك بالقول إن اللغة الأم دائماً ما تصبح هي المحرك الأول والأساس للتنمية، ولم يختلف أحد منهم على أن النهوض باللغة الأم واعتمادها كأساس في مجالات العلم والعمل والتعليم والاقتصاد والإدارة والإعلام والثقافة.. من الأسباب الجوهرية التي لعبت دوراً مؤثراً في تجارب النهوض والتطور لدى أغلب الأمم التي تقدمت.