علي محمد فخرو
في مقالة الأسبوع الماضي عن أن إزالة المظالم يمثل المدخل العملي والواقعي للاقتراب من تحقيق العدالة، وبالتالي يجب أن يكون بنداً مستقلاً في جدول أعمال الحياة السياسية العربية، كان منطقياً أن يطرح السؤال التالي:
ما الوسيلة الأنفع والأجدى لإزالة المظالم ودحر الظالمين؟ جواب التاريخ والمنطق يؤكد بأن الوسيلة الأنجع هي وسيلة المشاركة الشعبية المجتمعية المنظًّمة الفاعلة . ذلك أن أمراً خطراً ومصيرياً، كأمر إزالة الظلم وتحقيق العدالة لا يمكن تركه فقط للمشرّع أو لسلطة الحكم أو للحزب القائد أو للقائد الملهم أو للجيش الوطني، وإنما يحتاج أولاً وفي الأساس لإرادة شعبية مجتمعية تتجسد في مؤسسات وتنظيمات وحراكات، وعند الضرورة في ثورات، إرادة تفرض نفسها ومطالبها على كلّ أولئك من مشرعين وسلطات وقيادات .
ومع الأسف فإن وجود مثل تلك الإرادة والمشاركة الشعبية المجتمعية ما زال متعثراً في مجتمعات أمة العرب لسببين: الأول بسبب ابتلاع سلطات الدولة لمجتمعاتها لابقائها كسيحة عاجزة تابعة، والثاني بسبب عدم الوعي الشعبي بأهمية
وجود مثل تلك الإرادة وتنظيمها نتيجة لانتشار الجهل والتخلف الفقهي والحضاري ونتيجة لقلّة الخبرة بسبب غياب الممارسة الديمقراطية عبر القرون من تاريخ العرب .
والنتيجة لكل ذلك هو وجود ما يصفه علماء اجتماع العرب بأزمة المجتمع المدني . فالإرادة والمشاركة الشعبية المجتمعية تحتاج، لكي تكون إرادة ومشاركة في بناء الدولة، أن تتمثّل أولاً وبقوة وبفاعلية في مؤسسات مجتمع مدني غير مأزوم .
والمجتمع المدني مأزوم لأنّ إنسان ذلك المجتمع قد حولته سلطات الاستبداد والاستغلال عبر القرون إلى كائن مهمّش مغلوب على أمره، غير قادر على الاندماج بحيوية واستقلالية في حياة مجتمعه بسبب حرمانه من حقوقه الإنسانية من جهة، وبسبب وضع كل العراقيل والعقوبات في وجه تنظيماته، وعلى الأخص تنظيماته السياسية والنقابية والمهنية، من جهة ثانية، وبالتالي جعل تلك التنظيمات غير مستقلّة وعاجزة عن التأثير في الحياة العامة .
ومن أجل أن نكون منصفين فإن سبب عجز المجتمع المدني العربي لا يقع على أخطاء وخطايا سلطات الدولة العربية وإنما أيضاً يقع على أخطاء وخطايا مؤسسات المجتمع المدني العربي . ففواجع الانقسامات الحزبية والطائفية والقبلية والصراعات الشخصية والفئوية في الحياة العربية معروفة، وهي جزئياً مسؤولة عن ضعف المجتمع المدني أمام قوة سلطة الدولة وجبروتها .
من هنا وجب التذكير، ووطننا العربي يموج بأحداث متلاطمة خطرة مصيرية في هذه اللحظة من تاريخنا، التذكير بأن تحقق شعار العدالة الذي طرحته بقوة جماهير ثورات وحراكات الربيع العربي، وضمنياً شعار محاربة وإزالة المظالم ودحر الظالمين، بأن تحقق ذلك لن يتم، ولا حتى يبدأ، قبل إخراج المجتمع المدني من أزمته الحالية إلى حالة استرداده لعافيته ولحيويته . كل ثورات وحراكات الدنيا، عبر القرون، قامت بها مجتمعات معافاة ونشطة . ما المطلوب إذن؟
* أولاً: بالرغم من كل الكتابات والخطابات والأفعال المحدودة طوال القرن الماضي لايزال الوعي الشعبي العربي بفداحة ومأساة وضعه وبأهمية وأساليب مشاركته الذاتية والاعتماد على نفسه أولاً وقبل كل شيء، لا يزال ذلك الوعي غير ناضج ومتّزن، بدليل ما نراه يومياً في مجتمعات حراكات الربيع العربي من تطلعات شعبية لهذا الفرد أو تلك المؤسسة لتوجيهه ولقيادته وإنقاذه . هناك حاجة هائلة لبناء هذا الوعي .
* ثانياً: أثبتت مؤسسات المجتمع المدني العربي ضعفها وهوانها على نفسها، بسبب تاريخها التنظيمي المفجع وانقساماتها وعدم وعيها الكافي بحساسية وخطورة المرحلة التاريخية الحالية، وبالتالي حاجتها الملحّة السريعة لتجديد وبناء وتنظيم نفسها على المستويين القطري والقومي حتى تصبح فاعلة وقادرة على التفاعل والتناغم مع جماهير الشعب العربي . من دون ذلك لن يستطيع المجتمع المدني العربي دحر مناورات وأساليب الدولة العميقة العربية التي بنت قوتها وجبروتها عبر القرون .
أفضل توضيح لما نعنيه هو ما شاهدناه من عجز مؤسسات المجتمع المدني في مجتمعات الربيع العربي، حتى عندما وصل بعضها إلى السلطة، في أن تجري عمليات الإصلاح والتغييرات المطلوبة فسقط من سقط ويترنح من يترنح .
المشاركة الشعبية المجتمعية العربية المطلوبة، لحلحلة إشكاليتي تجذّر الظلم وغياب العدالة، يجب أن تكون مباشرة، من خلال الانخراط في بناء مؤسسات مجتمع مدني فاعل مستقل، ثوري في مشاعره إصلاحي جذري في مطالبه . أما المشاركة بواسطة الممثلين الشرعيين وغير الشرعيين في مؤسسات الحكم والتشريع والقضاء فقد تكون مكملة للإرادة التشاركية المجتمعية الشعبية المباشرة، لكنها حتماً لن تكون كافية لإحداث التغييرات الكبرى المطلوبة في حياة العرب، خصوصاً في وضعنا المأساوي المفجع الحالي .
مطلوب على الأخص من شباب وشابات وفقراء ومظلومي ومهمّشي العرب أن يعوا هذه الحقيقة ويفعلوا هم، هم وليس من خلال غيرهم، أن يفعلوا شيئاً لدحر الظلم والاقتراب من العدالة .