أحمد عبد الملك
نشرت الصحف قبل أكثر من أسبوعين صورة من سوريا لرجل يحمل على كتفه الأيمن رشاشاً، ويعلق على كتفه الأيسر كاميرا. وبدت الصورة مُحيّرة؛ حيث إنها التُقطت للرجل من الخلف، فلئن كان ذاك الرجل صحفياً ويحمل رشاشاً فلا حاجة لخصومه إلى تبرير قتله لأنه مسلّح! وإنْ كان جندياً أو تابعاً لفصيل عسكري ويحتمي بالكاميرا حتى يتقي النيران العدوة ، فهو أيضاً يُسيء إلى جمهور الصحفيين، الذين يُضحون بأرواحهم من أجل نقل الحدث إلى الجمهور، وأن وضع الكاميرا بهذه الصورة يعرّض الصحفيين الأصليين للقتل.
في ساحة الحرب، يبدو أن كل المحظورات متاحة، ولا يُحاسب عليها القانون، لأن القانون أيضاً ساقط أو معلق! وفي ساحة الحرب يغتصبون الأرض كما يغتصبون الكرامة الإنسانية. وفي ساحة الحرب تسقط كل القيم، فلا فرقَ بين قتل رجل مسلّح أو قتل طفل رضيع. ولا فرق بين قتل كلب شارد أو قتل إنسان مكسور. ولا فرق بين سرقة رغيف خبز أو سرقة وطن. تتشابه المتناقضات في زمن الحرب، وتسود شريعة الغاب ويكون البقاء للأقوى لا للأصلح. وهذا مناقض لطبيعة البشر وإنْ طابقَ شريعة الغاب.
تلك الصورة أوحت بكثير من الأفكار عن «ثقافة» الإنسان العربي، وتفننه في نشر مساحات الألم والخوف والمعاناة، في الوقت الذي يستثمر الإنسان – خارج المنطقة العربية – الوقت ويتفنن في إسعاد البشرية، وتقديم الاختراعات التي تساعد البشر في التغلب على منغصات الحياة، ولعل أهم المجالات التي تزدهر فيها ثقافة الاختراعات هو مجال الطب ومحاربة الأمراض وإنقاذ المُصابين. تماماً كما يتفننون في تطوير مناهج التعليم وارتياد الفضاء وإبهار العالم بالتكنولوجيا المتطورة والماركات الفاخرة، كما أن المواطن العربي الذي يلهج بالشتائم والسباب على الاستعمار وبعضهم يقول (الاسكتبار العالمي)، ويعنون به الدول الغربية وأميركا، نجدهم أول الناس يستوردون ما تخرجه مصانع تلك الدول بدءاً من الأسلحة وحتى حليب الأطفال وإبر المورفين. فكيف يمكن للإنسان العربي، الذي أدهشتنا السيَّرُ والقصائد والأخبار عن قوته وكرامته ونبوغه وعدالته وحنكته وفراسته، أن يتواءم مع العصر أو على الأقل أن يشارك الآخرين في تحسين الحياة لا تدميرها. لا توجد منطقة في العالم ملتهبة سياسياً وعسكرياً أكثر من المنطقة العربية.
ولا توجد منطقة في العالم متأخرة علمياً وثقافياً واقتصادياً أكثر من المنطقة العربية مع الإقرار بوجود تجارب اقتصادية ناجحة في بعض دول الخليج العربي.
ولا توجد منطقة في العالم أكثر استهلاكية واستيراداً للبضائع واعتماداً على الآخرين من المنطقة العربية، ولا توجد منطقة في العالم أكثر تجاذباً في الطائفية والمذهبية والقبلية من المنطقة العربية، كما لا توجد منطقة في العالم يتقاتل أهلها على أسس طائفية وقبلية وثأرية أكثر من المنطقة العربية. كما لا توجد منطقة في العالم تتغير أنظمتها – بعد الثورات العربية – نظراً لغياب الديمقراطية أكثر من المنطقة العربية.
أتكون محض مصادفة أن تتجمع كل الأمراض في المنطقة العربية، ولا يوجد لها «بلاسم» أو «حبوب» تساعد المنطقة على استعادة صحتها؟ وهل الأنظمة هي السبب الرئيسي فيما آلت إليه دول المنطقة العربية من حروب وصراعات وفساد إداري ومالي واستهلاكية والفشل في الزراعة والصناعة، رغم توافر المواد الأولية لذلك، أم أن للشعوب دوراً لم يُؤدَ بالصورة المطلوبة، فتحققت الصورة «المؤسفة» للمنطقة العربية.
ورد في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (كيفما تكونوا يُولى عليكم)، وقيل إنه حديث ضعيف! إذ كيف تختلف الرعية عندما يتغير الحاكم، فقد يأتيي حاكم ظالم وغير عادل بعد حاكم عادل، والرعية هي ذاتها؟ وبذلك ينتفى المعنى الظاهر للحديث، حيث لادخل للشعوب في تصرفات الحاكم، ولا يمكن أن يكون الشعب ظالماً كي يتحول الحاكم إلى الظلم، والعكس بالعكس! لكن -في عموم الثقافة العربية- فإن الحديث يُقصد به تصرفات الشعوب وإقرارها بواقع الحال وبعدالة تصرفات الحاكم غير العادلة، وعدم إطلاقها صيحات الاستنكار في وجه الحاكم الجائر. ولقد ورد في الحديث (أن من أعظم الجهاد كلمة عدل أمام سلطان جائر) وقيل إنه حديث حسن.
وقد يتكامل معنى الحديثين في النص، لكن معناهما على أرض الواقع يبدو بعيداً وغريباً عن المنطقة العربية هذه الأيام، ذلك أن هنالك من يسكن في (النص) المتوارث منذ التاريخ، وهنالك من يحاول انتشال المجتمع العربي من عبادة الوثن التاريخي والانتقال به إلى أفكار «سارتر» وهيجل ويعلّمه ديمقراطية (جيفرسون) . وهنالك من ينحني أمام الحاكم الجائر خوفاً من زوار الليل ومن الرحلة غير المُرجعةOne way ticket!
ولقد أثبتت تجارب الماضي القريب بقاءَ أنظمة استبدادية طوال ثلاثين أو أربعين عاماً دون أن تتحرك الشعوب كي تبدل تلك الأنظمة من نهوجها التي لا تخدم مصالح الشعوب ، قدر ما تعمل على تكريس الحكم وتوزيع «الغنائم» على أعضاء الحزب أو الشلة التي تحيط بالحاكم.
كما أن التجارب العربية – التي جاهرت بالديموقراطية ودولة المؤسسات – معظمها لم يقترب من الديمقراطية، ولم يتمكن من دولة المؤسسات، قدر اقترابها من «مؤسسة الدولة» الواحدة، التي لا تؤمن بحق الشعوب في المشاركة، بل ولا حقها في التخطيط لمستقبلها.
إن صورة (المُسلح / الصحفي) تلك؛ نتاج ٌواضح لشكل الدولة (المؤسسة)، التي يحكمها شخص واحد، ويعيش الشعب داخل «حظيرة» تسمى – وهماً – وطن!