عائشة سلطان
كانت الساعة قد شارفت على الحادية عشرة مساء، وكان المطعم الذي جلست فيه مع صديقتي
غاصاً بالزبائن من كل الجنسيات، كان المركز التجاري بالأحرى مشتعلاً بالحركة وآلاف
المتسوقين والمتسوقات.. على طاولة قريبة منا، جلست مجموعة من الفتيات الصغيرات لا
تتجاوز أكبرهن ربيعها الثالث عشر، أنفقن على العشاء ببذخ ظاهر، وتضاحكن كثيراً
كعادة من هن في مثل أعمارهن، وحين انسللن خارجات صاحت إحداهن كمن تذكرت أمراً
خطيراً «يااه الساعة 11 لقد تأخرنا»، ثم تراكضن خارجات!
ما وجدته غير طبيعي بالنسبة لمجتمع محافظ كمجتمعنا أن تترك الأسر الإماراتية بناتها
في هذا العمر الخطر خارج المنزل حتى منتصف الليل تقريباً، كيف؟ ولماذا؟ وأين الآباء
والأمهات؟ ومع من أتين للمركز وسيعاودن الرجوع للبيت؟ وكيف يتقبل أب أو أم أن يفتحا
الباب لصغيرة في هذا العمر تعود متأخرة للمنزل؟ هذا على اعتبار أن هناك أماً وأباً
موجودين أساساً، وأن هؤلاء الصغيرات يقمن ضمن أطر أسر بالمعنى الحقيقي للأسرة؟
وبعيداً عن التزمت والرجعية والمحافظة، فهناك أمور أخرى تدخل في صميم الأمن
والسلامة والسمعة والصحة وكثير من حقوق الحفاظ على الأطفال الذين يتعرضون لاعتداءات
ومضايقات من قبل الكبار حين تنعدم واقيات الحماية والأمان التي يوفرها وجود الأسرة
أو أحد الأبوين بصحبة الصغار.
حين ذكرت الحكاية لأحد الشباب ممن يعتقد أنه من المتحضرين والحداثيين، قال بداية
إن أمور العيب وعدم خروج الفتيات الصغيرات بمفردهن قد أصبح من معايير الماضي،
مجتمعنا لم يعد محافظاً بالمعنى الذي كان سائداً قبل عشرين عاماً، نحن نعيش جو
انفتاح وتقدم! ولم أفهم ما علاقة التمدن والانفتاح بعدم الحفاظ على الأطفال، أظننا
نتفق على أن الحفاظ على الأطفال وإقرار حقوقهم ضمن اتفاقات دولية، من معايير التحضر
والتقدم في العالم، وأن الأم المتقدمة فقط هي التي تحمي وتقر حقوق الأطفال والطفولة
وليس العكس، ثم إنه حتى في الدول الغربية من النادر أن تجد صغيرات يسهرن في المطاعم
حتى منتصف الليل، فما بالنا بدولة عربية محافظة!
لتفسير ظاهرة الشباب الصغار الذين يفدون على المراكز التجارية بثياب غريبة وقصات
شعر مثيرة متشبهين بالفتيات، وكذلك ظاهرة الفتيات الصغييرات اللواتي يبقين حتى ساعة
متأخرة هناك، فإن أقرب التفاسير هو أن عائلاتهم لا تجد في هذه السلوكيات أي غضاضة،
أو أن عائلاتهم لا علم لها بما يفعلونه خارج المنزل، وأن هناك ثغرات يتسلل منها
الانحراف إلى سلوك هؤلاء سببها الرئيس انعدام رقابة الأهل وثقتهم الزائدة في
الصغار، فتجمع الصغيرات في منزل إحدى الصديقات يعتبر أحد المداخل للتفلت والذهاب
يميناً وشمالاً دون علم الأسرة، تفكك العائلة ووجود الأبوين كل في طريق ونشأة
الصغار مع الجد أو الجدة مدخل آخر، السفر بمفردهن بصحبة الخالة أو أحد المعارف
و..... إلخ، هناك عوامل وظروف لا يلقي لها الوالدان بالاً، لكنها تدمر الصغار
وتعرضهم للكثير من الانحرافات.
التربية أمر عظيم جداً، والقضية ليست في الانغلاق والتضييق على الصغار أو
الشباب، لكنها في تربيتهم بشكل صحيح وصحي بعيداً عن التجاوز والكذب، وبعيد عن
تعريضهم لعمليات اعتداء وعلاقات مشبوهة، القضية أن من أخطر حقوق الطفل على والديه
شرعاً وقانوناً وحضارة أن يحسن تربيته وإعداده للغد بشكل متوازن وصحي وأخلاقي لا
أكثر ولا أقل حتى لا نظل نردد مفاهيم معكوسة للحرية والانفتاح والتحضر.