عائشة سلطان
في المسافة الشاسعة بين التجاهل والهجوم الجارح أو النقد الهدام توجد
منطقة وسطى أفضل وأكثر رحابة هي النقد البناء الذي يكاد يكون يتلاشى في
صحافتنا ولدى مثقفينا ومجمل الجسم الثقافي لدينا، إن عدم وجود النقد
المنهجي والموضوعي له أسبابه المختلفة، لكن نتيجته واحدة تتمثل في تدني
جودة المنتج الثقافي، وجمود الحياة الفكرية، وإصابة الأجيال الطارئة على
الثقافة والأدب بداء الحساسية المفرطة إزاء أي كلمة لا تصب في خانة المديح
والمجاملة والتطبيل والتهويل، فما لم تكن مستعداً لأن تكيل عبارات التفخيم
فما عليك سوى أن تغلق فمك لأن الناس كما سيقال لك لا يحتملون النقد ! لماذا
؟ لأن الحقيقة جارحة أو ثقيلة !
هناك من يعتقد أن لا شيء جيداً ولا عمل يستحق الاحتفاء، من وجهة نظر هؤلاء
فإن الأجيال الصغيرة تحتاج عقوداً لتنضج ويختمر إبداعها ليظهر لاحقاً
وليستحق الاحترام وحتى يحين ذلك الوقت فلابد من القسوة والتشريح وأحيانا
فلا ضير من التجاهل التام والصمت المطبق وكأن رواية لم تؤلف وشعراً لم ينشر
ومقالاً لم يكتب وفيلماً لم يعرض و... من الأفضل في هذه الحالة أن ننتظر
حتى يحين زمن القيامة، قيامة الشعراء العظام والروائيين الكبار والكتاب
الذين تنحني أمام عبقريتهم الهامات! إن الذين يفكرون بهذا المنطق يتجاوزون
المنطق والموضوعية ويتجاوزن النقد أيضا !
إن الحقيقة ثقيلة وغير
محتملة فعلاً، وللروائي أمين معلوف عبارة دقيقة وردت في روايته (موانئ
الشرق) مفادها «أن الحقيقة كالمرأة المتطلبة لا تكف عن المطالبة بالمزيد»
إن هذا الوصف صحيح ودقيق، فلكي نصل للحقيقة علينا أن نسعى كثيراً وطويلاً،
ولكي نحتمل هذه الحقيقة علينا أن نتدرب على ذهنية القبول بالحقيقة، وعلى
آليات التعامل معها وتفنيدها ووعي منهجها وأساليبها، هذا ما يتوجب على
الجميع أن يفعله أو يتلقاه في الأسرة وفي الشارع وفي الإعلام وفي فصول
الدراسة، أن يتدرب على المناقشة الحرة وتقبل أن يكون رأيه خاطئاً ورأي
الآخرين صحيحاً والعكس وارد، وان يكون لديه القدرة والأدوات ليثبت ذلك
ويتثبت من ذلك دون أن يأخذ الأمر على محمل الصراع الشخصي والمؤامرة وتصفية
الحسابات والحقد والحسد ..الخ !
ليس مقبولاً أبداً أن يكون نقد أي
رواية معينة أو تفنيد تقنيات السرد فيها (مع ذكر الأسباب وفق منهج نقدي
علمي) نوعاً من الحسد من قبل الناقد أو أن يحال للكراهية الشخصية أو تصفية
الحسابات، ذلك لا يدمر ثقافة النقد فقط ولكنه يعمل على تراجع مستوى النتاج
الثقافي بشكل العام طالما أن كل ما سيقدم مشروط بقبوله والثناء عليه
والتطبيل له قبل أن يصبح بين أيدي الناس، فالكل متوجس من النقد والكل يخاف
منه والكل يخشى الإقبال عليه لأن الكل (يتحسس) منن ! والنتيجة تدني
الذائقة، وتلاشي معايير الجودة، وانتشار المحاباة والشخصنة وفوضى النتاج
الأدبي والثقافي، بحيث يكتب أو يؤلف من لم ينشر سطرا ذات يوم بقناعة أنه
جارسيا ماركيز أو يوسّا أو نجيب محفوظ، بحيث لا يجوز نقده أو تشريح نتاجه
أو عرضه على معايير الضبط الأدبي !
نحتاج في الإمارات ونحن نؤسس
لحياة ثقافية وأدبية واسعة الانتشار كماً، أن نعمل جاهدين لتكريس ثقافة
النقد وقبوله وتقبله بناء على ضوابط وأسس لا تكرس السيئ والمبتذل والضعيف
ولا تكسر أشرعة السفن الصغيرة المنطلقة في عرض البحر الواسع، ثقافة النقد
المطلوبة لابد أن تحتكم لأخلاقيات النقد أولاً ولمعايير النقد ثانياً وان
تقابلها ثقافة الحوار والنقاش الهادئ عبر الملتقيات والندوات والصالونات
الأدبية التي فقدت فعاليتها حين تحولت الى طقوس باهتة ومكررة وفارغة من
جديد وملفت، وأن يتاح المجال للشباب والدماء الجديدة لتقول كلمتها!