تتغير الظروف من حولنا بشكل دراماتيكي أحيانا، وبشكل لا نصدق حدوثه لشدة عجائبيته، لكن الظروف والأحوال تتغير، هكذا هي منذ بدء الزمن وسيرورة الحياة على الأرض، ومع الظروف والأحوال يتغير البشر والأشخاص الذين حولنا، والذين معنا والقريبون منا، لا أحد محصن ضد التغيير، ولا شيء ثابتا، التغيير هو القانون الأكثر ثباتا وبقاء واستمرارية في هذه الحياة، وعلينا أن نتقبل ذلك، كل بطريقته وبما يملك من قدرات نفسية وعاطفية وجسدية، مع ذلك ومع القبول أو الرفض، الإيمان أو الانكار، فإن شيئا ما في داخلنا يظل متعلقا لذلك الذي كان ذات يوم، لذلك الجزء الذي سبق التغيير أو ربما لم يتغير فينا وفيمن حولنا.
ما الذي يشدنا لذلك؟ ما لذي يعلقنا بما كان؟ الأمكنة؟ الأشخاص؟ العاطفة؟ الشعور بالأمان، بالفرح والبهجة؟ شعلة الحلم في دواخلنا وهي بعد قاب قوسين أو أدنى من الغد لم تتحقق ولم تتكون كما نريدها حلما مكتمل الملامح، هل هي حقيقة أننا نعشق أحلامنا أكثر مما نحبها إذا تحققت؟ الحقيقة الأكيدة أن معظمنا يظل معلقا بخيط رفيع مشدود للأمس وللذي كان، معتقدين أنه الزمن الأكثر بياضا وأمانا وجمالا ! الحقيقة أنه كذلك لأننا عرفناه أما ما لم نعشه بعد فلا يزال مجهولا، والإنسان عدو لما جهل عادة.
الأصحاب الذين رحلوا لأكثر من سبب لا يمكننا تعويضهم، هم لا يعوضون أبدا، حتى وإن عرفنا والتقينا، وأحببنا وصادقنا غيرهم، ذلك له علاقة بأكثر أيام العمر نضارة، تلك التي قضيناها معهم، ومعهم عشنا تلك الأمنيات والأحلام والضحكات، وحتى الشقاوات والشيطنات التي لا تنسى، تلك ألوان الحياة التي حين تبهت يظل ضياؤها وبريقها وضجيجها عابقا هناك في مكان ما في تلافيف الدماغ والقلب والروح.
حين وصلني نبأ وفاة أحلى الصديقات وأكثرهن قربا للقلب ذات يوم، جمدت اللحظة أمام عيني، توقف الزمن للحظة، واستعادت ذاكرتي أياماً طويلة، سنوات الدراسة والجامعة، الصحب والمحاضرات، وقاعات الدرس والكتب والأساتذة، ليالي السهر والمذاكرة والتعب، أيام الضحك واللعب والمقالب، الزعل والقرب والإقبال على الحياة بشكل لا يصدق، حين وصلني الخبر كان قد مضى على وفاتها زمن لم أعرف أنها رحلت فيه ولم يعرف أحد ممن حولي، لا أدري كيف تسللت من الحياة هكذا من دون أن نشعر بها، ولا أدري كيف ابتعدنا هكذا لهذه الدرجة التي لم نعد نشعر فيها برحيل بعضنا بعضا، ذلك الرحيل الذي لا عودة بعده !
تتغير الأحوال وتتغير الدنيا ونتغير، ربما لا نقصد وربما لا نرغب ونتقصد، ربما تبقى الصور فينا، والصداقات محفوظة في جيوب الذاكرة، لكن ما الفائدة حين يصير الاصحاب مجرد صور في اطارات موضوعة على المكاتب أو قرب الأسرة، أو مجرد صور لحفلات التخرج وأعياد الميلاد واللقاءات القديمة، نتغير في النهاية، وفي التغيير وبعده تحدث أمور لم تخطر على البال يوما، لكن الذين يرحلون يرحلون وحدهم ولا يعودون، وساعتها لا ينفع أي وعد بأي شيء !