عائشة سلطان
كتب ألبيرتو مانغويل «القراءة ضرورة للحياة كالتنفس» في تقديمه لكتابه المهم والأكثر شهرة (تاريخ القراءة)، حيث اقتفى ولسنوات طوال آثار النصوص المكتوبة والمقروءة والمطبوعة عبر مختلف العصور التاريخية، حيث بحث عن أشهر الكتب وأشهر القراء عبر التاريخ وأكبر المكتبات، وحتى عشاق الكتب وسراقها، وقبل كل شيء بحث عن القراءة وتاريخها داخل نفسه ومن خلال علاقته بها، ليصل بنا إلى فهم عميق وجميل وصفته جريدة «نيويورك تايمز» بأنه يروي ظمأ القراء لعطش القراءة، وباختصار فإن الكتاب الذي بذل فيه كاتبه سنوات من البحث والتقصي، لا يعدو أن يكون حكياً رائعاً لحكاية أروع: حكاية الحب العظيم بين الإنسان والكتب.
حينما نعود إلى الوراء تماماً كما فعل مانغويل لنراجع حكايتنا الخاصة مع الكتاب، نجد أن الحب ذاته نما في الفترة نفسها أو في العمر الغض نفسه عند جميع العشاق: عشاق الكتاب، ولو أن هذا الحب تأخر بعض الشيء فربما ما كانت الحكاية ستبدأ يوماً، لقد قرأت أول الكتب خارج أفق الكتاب المدرسي في سن مبكرة جداً، ربما حين كنت في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي، وحين أصبحت في الصف الخامس، كنت أدخل للمكتبة كأول مرة باعتداد وفرح كبيرين: كنت يومها أشتري كتابي الأول من مكتبة (دار الحكمة) التي كانت في ميدان بني ياس (جمال عبدالناصر سابقاً) بمنطقة ديرة بدبي، كنت أتحرك بين صفوف الكتب بانبهار، وأنقل عينيّ من الأسفل للأعلى حتى ترتطمان بسقف المكتبة، كادت أنفاسي تتقطع يومها وأنا أهمس لنفسي «يا الله من أين أتوا بكل هذه الكتب»، يومها نبت في قلبي ذلك الشغف الذي لم يغادرني حتى اليوم: القراءة!
هذا بالضبط ما يحكيه ألبيرتو مانغويل، الشغف بالقراءة منذ الطفولة، فيروي لنا قصة علاقته بالكاتب الكبير الكفيف بورخيس الذي كان يقرأ عليه، حيث كان يقيم في بيونس آيريس مدة سنتين كاملتين يوماً بعد يوم (قبل أن ينتقل إلى كندا ويصبح مواطناً كندياً)، دون أن يغفل الحديث عن فن الطباعة وشكل الكتب وسلطانها وفعل القراءة. وبدايات الكتابة، وعظماء العالم الذين كانوا يكتبون ويحبون القراءة مثل أرسطو، ابن الهيثم، وذلك الأمير الفارسي الذي كان يأخذ معه مكتبته التي كانت مؤلفة من 117000 كتاب حيثما رحل، ماراً على عمال التبغ في كوبا الذين كانوا يستمعون للكتب والروايات تتلى عليهم، فيطلقون أسماء أبطالها على سجائرهم التي يلفونها بمزاج القراءة!
كتاب «تاريخ القراءة» يتحدث عن القراءة بهيام ومحبة، تماماً كالمحبة التي يشعر بها كل القراء في العالم نحو هذا الفعل العظيم الذي أجاد الكاتب حين وصفه بأنه ضروري كالتنفس تماماً.
قبل الولوج لعالم وأسرار الكتاب، يسطر الكاتب في منتصف صفحة ما قبل البداية هذه النصيحة «اقرئي كي تحييْ» التي قالها غوستاف فلوبير للآنسة شانتيبي في رسالة بعث بها إليها عام 1857، لنعلم أن العالم شغوف بالقراءة دائماً لا ليقضي وقت فراغه في هواية - أي هواية والسلام - كما يفعل الكثيرون مع القراءة، ولكن كي يحيى، نحن نقرأ لنحيا لا لنقتل الوقت!