بدر الراشد
تبدو فكرة انهيار العالم التقني الذي نعيشه اليوم مرعبة، وكأن حياتنا
وعلاقاتنا رُهنتا للأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها. وهذه الرؤية - أي
اعتبار التقنية أداة لصياغة حياة البشر ليست مجرد وسيلة لتسهيلها - ليست
حديثة. يمكن رؤيتها في الرؤية الماركسية لدور أدوات الإنتاج في صياغة
الاقتصاد ومن تالي المجتمع، ويمكن تتبعها في نظرية الحتمية التقنية لمارشال
ماكلوهين وآخرين، إذ التقنية وسيلة لتشكيل المجتمع، وليست مجرد أداة
لتسهيل حياة الأفراد.
هناك أكثر من تحدٍّ في هذا
السياق، الأول: أن قرابة نصف العالم محروم من أهم تقنيات التواصل، ألا وهي
الإنترنت، وهو ما يجعل «الإنترنت» حتى الآن ظاهرة محدودة على مستويين: على
مستوى القارات إذا شبكة الإنترنت ما زالت ظاهرة أوروبية أميركية باستثناءات
مهمة كاليابان وكوريا الجنوبية ودول الخليج العربي، وليست ظاهرة عالمية
كما يتردد في أطروحات العولمة و«القرية الكونية» التي يبدو بأنها بحاجة إلى
إعادة تفكير عميقة. هذا التحدي الأول، يرتبط بالآخر، وهو أن الاستفادة من
شبكة الإنترنت حتى داخل هذه الدول (أوروبا- وأميركا الشمالية) لا يشمل جميع
السكان لأسباب متعددة، سآتي على ذكرها لاحقاً. وهذا ما يسمى بالفجوة
الرقمية داخل المجتمع. فهناك فجوتان: قارية، فعلى سبيل المثال 16 في المئة
من أفريقيا فقط متصل بالإنترنت. وأخرى محلية.
في
الولايات المتحدة الأمريكية (مثالاً) نجد أن الفجوة التقنية في المجتمع
ترتكز على ثلاثة معطيات: العِرْق، والتعليم، ومستوى الدخل. والمسألة ليست
بالبساطة التي تبدو عليها في الوهلة الأولى، إذ إن هذه العوامل متداخلة
ومؤثرة بعضها في بعض، بشكل حاسم. فالعامل الاقتصادي (مستوى الدخل) يؤثر في
جودة التعليم التي يتلقاها المواطن الأميركي، فبينما يحصل أبناء الطبقة
المتوسطة على تعليم جيد وأبناء الطبقة الغنية على تعليم ممتاز نجد أن
الفقراء يتلقون تعليماً رديئاً، وهو ما يقلل فرصهم في الدراسة في جامعات
جيدة، وهذا يؤثر مباشرة في الفرص الوظيفية المستقبلية ومستوى دخلهم. وهذا
الوضع مرده إلى تعقيد نظام التعليم العام في الولايات المتحدة، الذي يعتمد
كلياً على مستوى دخل الأسر، لاعتماده على الضرائب، وهو ما يعني أن الفقراء
يستمرون غالباً في دوائر الفقر، والأغنياء كذلك. فيما يشبه «الجيتو» لكن
لأسباب اقتصادية هذه المرة لا دينية.
دراسات متعددة في
هذا الإطار بالولايات المتحدة تكشف أن أكثر الخاسرين في معركة التقنية
المنتمون إلى العرقيات التي هُمِّشت تاريخياً، كالسود والمكسيكيين والهنود
الحمر. فنجد ارتباط هذه العوامل (العِرْق والفقر والجهل) بسبب طبيعة النظام
الاقتصادي، على رغم مضي عقود على نهاية التمييز العنصري. هذا ما يجعل
الحديث عن الرئيس الأميركي باراك أوباما دليلاً على نهاية المظلومية
التاريخية للسود مجرد ادعاء، فالحقيقة أن التغيير الاقتصادي في أوضاع
الأقليات العرقية ما زال محدوداً، وهيمنة البيض تبدو قاهرة، اقتصادياً
وإعلامياً، مع وجود اختراقات محدودة بالتأكيد. لكن التيار العام في الإعلام
الأميركي يعزز هيمنة البيض.
حال الفجوة الرقمية في
العالم العربي مخادع، فبينما الأرقام تُظهر ارتفاعاً مقداره 10 في المئة
على المستوى العالمي، إلا أن هناك تفاوتاً هائلاً بين الدول العربية. ففي
السعودية تبدو الفجوة الرقمية أقل من مثيلاتها في الدول العربية. فبينما
تتميز قطر بأن 80 في المئة من سكانها مرتبط بشبكة الإنترنت، بسبب عوامل
أهمها: قلة السكان وارتفاع مستوى الدخل، نجد أن النسبة تصل إلى 5 في المئة
بالعراق كإحدى الأرقام الكارثية على المستوى العربي لتصف العراق مع
موريتانيا والصومال. بينما من المتوقع أن يصل الرقم إلى 50 في المئة
بالسعودية عام 2015، وهذه خطوة ممتازة للغاية ومبشرة. وهذا ما يفسر نجاح
الخدمات الإلكتروننية لبعض القطاعات الحكومية، وأهمية الاستمرار في جهود
الحكومة الإلكترونية.
من المؤكد أن الفجوة الرقمية
ليست محصورة باستخدام الإنترنت، بل تشمل استخدام الكتب الإلكترونية،
ولاسيما في مجال التعليم (مثالاً)، والحريات في تداول المعلومات
والبيانات...، وهو ما يعني أنها ليست مجرد إشكالية تقنية، بل اجتماعية
وسياسية واقتصادية وقانونية.
تظهر بعض الأبحاث أنه
بإمكان الهواتف الذكية أن «تجسِّر» الفجوة الرقمية في المجتمع، بسبب سهولة
استخدامها وانتشارها بين السكان، ولاسيما الشباب. وربما هذا ما يفسر
الأرقام المرتفعة لاستخدام «تويتر» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى في
السعودية، إذ الشباب يشكِّلون قرابة 60 في المئة من السكان. لكن هذا ليس
كافياً، خصوصاً في المناطق المهمَّشة تنموياً، إذ تتحمل الدولة مسؤوليةً
مضاعَفةً لتجسير الفجوة الرقمية من خلال التعليم أولاً، ثم إتاحة المجال
لاستخدام الإنترنت مجاناً في المجال العام قدر الإمكان.
غالباً
ما يُبالَغ في تقدير حجم التغيير الذي تجلبه التقنية إلى حياتنا، وأحد
أبرز أمثلة على هذه المبالغات: ربط ثورات الربيع العربي بوسائل التواصل
الاجتماعي مثل: «تويتر» و«فيسبوك» و«يوتيوب»، وغيرها، واعتبار وسائل
التواصل الدافع الأول للثورات، وهذا محض وهم ومبالغة فجة. على الجهة
المقابلة نجد من يقلل من قيمة تأثير هذه الوسائط في حياتنا اليومية، ونجد
أن كلتا الرؤيتين تحتاج إلى المراجعة. فلا شك في أن التقنية تؤثر فينا
تأثيراً مهماً، فلا أحد ينكر الدور الذي لعبه اختراع الطابعة - على سبيل
المثال - في مصير البشر. ولكن هناك دور لإرادة الإنسان، وصراع رغباته
وأفعاله، وهو ما يُنتج التغيير على الأرض.