يوسف الحسن
قبل نحو ثماني سنوات، نشرت "كُتِّيباً" حول الدبلوماسية الثقافية، وقد أوليت هذا الموضوع حينئذ، عناية خاصة . في محاضراتي أمام دبلوماسيين مواطنين وعرب وأجانب . مستشعراً أهمية هذه الدبلوماسية غير التقليدية، في أزمنة تغيرت فيها طبيعة عناصر القوة، وصارت كل دولة تحرص على كسب معارك الأفئدة والأفكار، وتقديم قيمها وثقافتها وفنونها وسياساتها، على اعتبار أنها الأكثر إقناعاً، وجاذبية ونفعاً وانفتاحاً .
ولعل هذه الدبلوماسية الجديدة، المسماة بالثقافية أو العامة أو الشعبية، هي من نتاج تطور الفكر الدبلوماسي والعلاقات الدولية، وبرزت أهميتها خلال العقدين الأخيرين، حينما أدركت دول العالم، مدى حاجتها لتحسين صورتها في الخارج، ولإقناع الرأي العام الخارجي بقيمها وإنجازاتها و"نُبل" سياساتها . وقد أسهم في إعلاء شأن هذا النوع من الدبلوماسية، انتشار قيم الشفافية والديمقراطية، وتفجر ثورات الاتصال والمعلومات . وبروز لاعبين جدد في العلاقات الدولية، مثل المنظمات غير الحكومية، فضلاً عن الحاجة الماسة لتصحيح الصور النمطية السلبية المستقرة في أذهان الرأي العام عن الآخر، وأهمية بناء علاقات حسنة دائمة ومباشرة مع الشعوب الأخرى، والقوى المؤثرة فيها .
يتجاوز مفهوم الدبلوماسية العامة Public Dilopmacy، مفهوم الدبلوماسية التقليدية، ومفاهيم الدعاية والإعلام الخارجي ومكاتب الاستعلامات والمعلومات الحكومية . باعتبار أن الدبلوماسية الحكومية، مقيَّدة بالأعراف والأسوار والصلات الرسمية، في حين تنخرط في الدبلوماسية العامة مجموعة واسعة، من قطاعات المجتمع .كالتربوي والأكاديمي والإعلامي ورجل الأعمال، والناشط في المجال النسائي والشبابي والاجتماعي والحقوقي والبيئي والرياضي والفني والثقافي . . . إلخ . وكل هؤلاء، يشكلون فرقة دائمة وفاعلة في حملات هذه الدبلوماسية غير التقليدية، وكقوة ناعمة . لكسب معركة الأفكار والقيم والصور والسياسات والانطباعات، وفتح المغلق من الأبواب لدى الآخرين . والوصول إلى نبض الناس ومفاصل حركة المجتمعات .
وتعتبر أمريكا، من أوائل دول العالم، التي تنبهت إلى أهمية الدبلوماسية، وصك مصطلحها أحد أساتذة الدبلوماسية في جامعة فْلِتشر في بوسطن، قبل نحو خمسة عقود، لكنها لم تأخذ حظها من الاهتمام حتى مطلع القرن الواحد والعشرين . وقد أسهمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في نيويورك وواشنطن، في تسليط الضوء على أهمية هذه الدبلوماسية الشعبية . في الوصول مباشرة إلى الرأي العام الداخلي المستهدف، وعادة ما تبدأ هذه الدبلوماسية عملها، حين تنتهي التصريحات الرسمية، أو تتعثر خطى الدبلوماسية التقليدية .
وفي دول أخرى، ومنها دول أوروبية، كفرنسا مثلاً فإنها لم تعرف هذا المصطلح في دبلوماسيتها إلاّ مؤخراً، وكانت أنشطتها تقتصر على التبادلات الثقافية والعلمية وتشجيع نشر لغتها . ولم تكن هذه الأنشطة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسياسة الخارجية .
اليوم، تغيرت الدنيا والأدوات، وتراجعت أدوار الدبلوماسية التقليدية، أمام بروز تحديات كبيرة ومتشعبة ومتداخلة، ووضعت الدبلوماسي في مواقع ومتطلبات مغايرة لما هو تقليدي، بدءاً من نظرته إلى نفسه ودوره ومهاراته، وصولاً إلى مشاركته في النقاش العام الدائر في العالم، والانخراط في المجال العام السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي للبلد المضيف .
لم يعد دوره مجرد كتابة تقرير معلومات، أو ساعي بريد، يوصل المذكرات والرسائل من هنا إلى هناك، وإنما تطور هذا الدور، إلى قوة مؤثرة ومحركة وجذابة ومنخرطة في الفضاء العام، وأكثر إقناعاً من البديل الآخر .
لدينا في عالمنا العربي، نماذج بائسة عديدة، في مجال تجاهل مفهوم الدبلوماسية العامة الثقافية الشعبية، فهناك دول، لديها طموحات وإمكانات مالية، لكنها بلا دبلوماسية عامة غير تقليدية، وتكون المحصلة مخيبة، والطموحات تصبح بلا جذور .
وهناك أيضاً، من يُعبِّر في دبلوماسيته التقليدية عن "غضب أو تذمر" تجاه سياسات رسمية لحليف ما، لكنه لا يُترجم هذا الغضب أو التذمر، إلى دبلوماسيات ثقافية وشعبية، تؤثر في الرأي العام لمجتمعات هذا الحليف، رغم أن مقولة الغضب هي دعوة للمناقشة والحوار .
تنجح الدبلوماسية العامة الثقافية الشعبية، حينما تفترق عن الدعاية، فعلى سبيل المثال، نجحت BBC في تقديم القيم البريطانية والسياسات البريطانية في العالم، بشكل أكثر فعالية وتأثيراً من الدبلوماسية الرسمية التقليدية .
من ناحية أخرى، فإن المغفور له القائد المؤسس الشيخ زايد، قدَّم الإمارات للعالم، بشكل مؤثر ومقنع ومفيد، ورسخّت سياسته الخارجية، الانطباع الحسن، والصورة الإيجابية عن الدولة والمجتمع، وعبَّر بالقول والفعل عن تواصله مع نبض واحتياجات الرأي اللام الخارجي، ومؤسسات المجتمع المدني، وحرصه على تشكيل مجتمعات صديقة، حتى أصبحت الإمارات في عيون العالم، دولة مفيدة ونافعة، للإنسان والبيئة والاستقرار والسلام . وهذه هي خلاصة النجاح في الدبلوماسية غير التقليدية .
سألتني منذ أيام، مواطنة دبلوماسية نشطة وطموحة، عن متطلبات العمل في إطار الدبلوماسية العامة، ولعل سؤالها هذا، كان حافزاً لي، لاستعادة الحديث عن تجربة الدبلوماسية وتحدياتها المعاصرة والمستجدة، وما يتطلبه العمل المؤثر والمنتج، من مهارات وقدرات قيادية وتقنية وثقافية وإعلامية، وكفاءة في الخطابة والحوار والمناقشة وعرض الأفكار، ومهارات التعامل مع الآخر المغاير، وتفهم عميق للثقافات والمعتقدات المتعددة، وامتلاك لناصية التعامل الكفء مع وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، لكسب معارك الأفكار والقلوب .
في ثمانينات القرن الماضي، ألقيت أوزار ومتاعب ارتفاع أسعار النفط، على عاتق العرب في الخليج، وهاج المجتمع الأمريكي ضد العرب، وحدث أن زارت مجموعة من الشخصيات البارزة الأمريكية، من أصول عربية، دولة عربية كبيرة منتجة للنفط، والتقت زعيمها، وتمنَّت عليه إيفاد وزير البترول وأكاديميين وإعلاميين ورجال أعمال كبار إلى أمريكا، لمخاطبة الرأي العام الأمريكي، والجامعات الأمريكية، وشرح وجهة النظر العربية بشأن ارتفاع أسعار النفط، وفوجئ أعضاء الوفد برفض هذا الطلب، وقول الزعيم العربي، "بأنه لا يقبل مخاطبة الأمريكيين، إلاَّ من خلال الحديث مع الرئيس الأمريكي والقنوات الرسمية والدبلوماسية" .
ونخشى أن تكون هذه الرؤية القاصرة، مازالت مستقرة في دوائر صناعة القرارات العربية، من هنا، تبرز أهمية تفعيل دبلوماسية عامة ثقافية شعبية، تخاطب مباشرة الرأي العام والمجتمعات الأهلية، بغرض كسب العقول والأفئدة، وتوفير أرضية مشتركة للفهم والتفاهم مع الآخرين، وبناء الجسور والصداقات والصلات .
وتتطلب هذه الدبلوماسية بالضرورة، تأسيس مجالس مستقلة معنية بالعلاقات الخارجية، وتدريب فرق من مختلف قطاعات المجتمع، كقوى دائمة لحملات الدبلوماسية العامة، وتوفير الإمكانات الفنية والبشرية والمادية لها، والانخراط الفاعل في التحولات الجارية، واستحقاقات العولمة والتغيرات في طبيعة القوة .
الدبلوماسية التقليدية، تستطيع أن تدّعي "أن بلدها يُصنع ساعة يد، أرق وأجمل وأسرع من الساعات السويسرية"، لكن الدبلوماسية العامة . . لا تدِّعي ذلك.