صالح عبد الرحمن المانع
أثارت الأحداث السياسية في أوكرانيا تساؤلات كثيرة حول تأثير هذه الأحداث على واردات دول الخليج العربية من هذه الدولة المُصدِّرة للقمح. وعلى رغم أنّ أوكرانيا لا تصدِّر سوى قيمة مليار دولار من الغذاء لمنطقة الخليج العربي (أغلبها للمملكة العربية السعودية)، إلا أنها تمثّل رابع مصدر للغذاء لدول الخليج العربية، حيث تمثّل الهند الدولة المُصدِّرة الأولى. كما أنّ المناطق الخضراء القيّمة في هذه الدولة يمكن أن تمثّل منطقة استثمار مستقبلي في المشاريع الزراعية الخليجية.
وقد أثارت الأحداث السياسية سواءً في المنطقة العربية، أو على أطرافها، شهية العديد من المحللين لمناقشة تأثير هذه الأحداث على استراتيجيات تأمين الغذاء لدول الخليج. وصدرت عدة دراسات عن معهد «شاتام هاوس» في لندن، تناقش سياسات تأمين الغذاء في دول الخليج العربية. فدول الخليج تستورد معظم احتياجاتها الغذائية من الخارج، حيث إنها دول صحراوية وبحاجةٍ ماسّة للمياه المحلاّة لتلبية متطلبات المدن وسكانها، ولا يمكن أن تفي مثل هذه المياه بمتطلبات الزراعة التي تستهلك بطبيعتها كميات ضخمة من الماء. ويتراوح اعتماد دول الخليج على الغذاء المستورد ما بين 92% لدولة قطر، إلى المملكة العربية السعودية التي تعتمد على 68% من ورادات الغذاء من الخارج.
ويناقش التقرير المذكور السياسات التي اتّبعتها دول الخليج العربية في أعقاب أزمة الغذاء العالمية لعام 2007- 2008، ويرى أن معظم دول الخليج العربية قد أخذت بمبدأ دعم أسعار المواد الغذائية الأساسية، ووصل الحد بدولة الكويت أن تقدِّم سلة من المواد الغذائية المجانية لمواطنيها لمدة أربع سنوات. أما دول أخرى في الخليج فقد اعتمدت على تجميد أسعار بيع بعض السلع الغذائية، وتعويض التجّار عن أي خسائر تلحق بهم جرّاء هذا التجميد.
وحسب معلوماتي الخاصة، فقد اعتمدت دول الخليج منذ أكثر من عشرين عاماً على مبدأ الشراء المشترك لبعض السلع الغذائية الأساسية، وذلك عن طريق الغرف التجارية المشتركة. وقد نجحت هذه السياسة في تقليص التنافس القائم بين التجار للحصول على قطعة أكبر من نفس السلعة من هؤلاء المصدِّرين.
وتراقب دول الخليج العربية الارتفاع في مستويات أسعار بعض المواد الغذائية بشكلٍ مستمر. ومع أنّ معظم استهلاك المواطنين هو للحوم البيضاء، إلا أن أسعار اللحوم الحمراء قد تضاعفت مؤخراً إلى ثلاثة أضعاف مستوياتها قبل عامٍ مضى. ومثل ذلك يتطلب تدخلاً مباشراً للحدّ من هذه الزيادة الهائلة في الأسعار، والبحث عن مصادر جديدة لإمداد الأسواق المحلية بمثل هذه السلعة بأسعار معقولة.
ومن ناحيةٍ ثانية، كانت المملكة العربية السعودية إلى عهدٍ قريب تعتمد على زراعة القمح في مناطق شاسعة من البلاد، غير أن الاستهلاك الجائر للمياه من قِبل المزارعين قد أجبر وزارة الزراعة على الحدّ من إنتاج القمح، حيث ستعتمد المملكة بشكلٍ رئيسي على الاستيراد بحلول عام 2016. أما زراعة البرسيم، فلا زالت تستهلك كميات وفيرة من المياه الجوفية. وهناك «لوبي» زراعي في بعض مناطق المملكة يقف ضد أي تقليص في حجم الزراعة المحلية بغضّ النظر عن كمية استهلاكها للمياه.
ومع الاستهلاك الهائل للمياه في المدن الخليجية، ظهرت على أطرافها بحيرات جديدة، يمكن استخدام مياهها بعد تنقيتها في ريّ بعض المزارع الصغيرة المحيطة بهذه المدن.
أما من ناحية الاستثمار الخارجي في الأراضي الزراعية في المناطق المحيطة بالخليج، فيبدو أن هذه السياسة التي أُعلنت عام 2008-2009، لم تنجح بشكلٍ كامل. فمعظم الدول التي يتم الاستثمار فيها هي دول غير مستقرة سياسياً. وتفرض في بعض الأحيان ضرائب على الصادرات الغذائية، أو الأعلاف، مما يزيد من سعر هذه السلع ويجعلها غير منافسة في الأسواق الخليجية. كما أنّ تغيّر السياسات الحكومية في بعض هذه البلدان، أو ظهور رأي عام «قوموي» فيها، يخلق أجواء سياسية ضاغطة على حكوماتها للحدّ من تصدير مثل هذه المنتجات الزراعية.
وقد اضطرّت بعض دول الخليج إلى الاستثمار في شركات زراعية في أستراليا والهند وأوروبا. ويبدو أنّ مثل هذا التوجّه الذي يععتمد على القطاع الخاص من شأنه أن يوفّر الأمن الغذائي المطلوب، ويمكن أن يتمّ تخفيف حدّة أية زيادات مستقبلية في أسعار الغذاء بدعم هذه المنتجات مع التجار المحليين، أو مع الشركات المُنتجة.
ويُشير تقرير «شاتام هاوس» إلى أن أسعار الغذاء العالمية ستظلّ في الأمد المنظور (حتى عام 2022) أقل بكثير من متوسط سعر النفط. ويسمح هذا لدول الخليج العربية أن تستمر في سياسات الدعم الحالية لتغذية شعوبها. غير أن التغيّرات والتقلّبات السياسية في المنطقة تؤثِّر بشكلٍ كبير على أسعار الغذاء. فعلى سبيل المثال، أثّرت الأزمة السورية على واردات الغذاء سواءً من سوريا، أو من البلدان المجاورة مثل تركيا ولبنان، الذي اضطرّ مصدرو الغذاء والفاكهة فيه إلى البحث عن طرق بحرية، بدلاً من الطرق البرية المعهودة، لإيصال إمداداتهم من الأغذية إلى مستهلكيها عبر الموانئ السعودية. وقد أثر ذلك على نوعية هذه الفواكه التي تسلك طرقاً طويلة للوصول إلى المستهلكين، وعلى أسعارها. ولاشكّ أنّ البدء قريباً في مدّ سكك حديدية جديدة بين بلدان الخليج العربية سيوصل هذه السلع وغيرها من السلع الصناعية أو الاستهلاكية بشكلٍ أسرع وأرخص من إرسالها عبر الطرق البريّة.
ويشير تقرير «شاتام هاوس» أيضاً إلى أنّ الاضطرابات المحيطة بالمضايق المائية في العالم العربي، امتداداً من مضيق هرمز، مروراً بباب المندب وقناة السويس، وكذلك مضيق البوسفور، تمثّل مناطق خنق محتملة للأمن الغذائي المستقبلي، ليس فقط لدول الخليج العربية، بل لبقية الدول العربية كذلك.
وبينما تتفاوت السياسات الخليجية في الاعتماد على المشاريع الحكومية مثل إنشاء مخازن قمح استراتيجية في مناطق ومدن عدّة، إلى الاعتماد على القطاع الخاص في الاستثمار في قطاعي الدواجن واستزراع الأسماك، فإنّ مجمل هذه السياسات تعني أن يتمّ تأمين الغذاء لمواطني الخليج وسكانه بأسعار معقولة، ونوعيات جيدة. على أنّ مواطني الخليج عليهم كذلك الحدّ من الاستهلاك الجائر للغذاء، وإيجاد وسائل فاعلة مثل بنوك الطعام المحلية، لإيصال الكميات الزائدة من الأطعمة في الأفراح والمناسبات، لمحتاجيها.